نعمَ الله
استكمالا لموضوع فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّه (الجزء الثاني)
فيا أخوتي في الله!
شكرُ الجسمِ أن تؤدي حقَه مع اللهِ عز وجل، فتستخدمُه فيما يقربُه من اللهِ عز وجل، وشكرُ اللسانِ الثناء، وشكرُ اليدِ الوفاء، وشكرُ العينِ الإغضاء، وشكرُ الوجهِ الحياءُ منه سبحانَه وتعالى.
كان عليه الصلاةُ والسلام يعظُ أصحابَه وينصحُهم ويردُهم إلى الحي القيوم وهم من أحياء الناسِ مع الله، ومن أقربِهم إلى الله، يقولُ لهم استحيوا من اللهِ حق الحياء، فيقولون له عليه الصلاة والسلام وهو يظنون أن الاستحياء دخولَ الإسلام، وهذا من الحياء، ولكنَ مرتبة الحياء الكبرى أن تجعلَ بينَك وبين المعاصي حجابا، قالوا يا رسولَ الله واللهِ إنا لنستحيِ من اللهِ حقَ الحياء، فقال عليه الصلاة والسلام ليس ذلك بحقِ الحياء، حق الحياء أن تحفظ الرأسَ وما وعى، والبطن وما حوى، ومن تذكرَ البلى ترك زينةَ الحياةِ الدنيا.
قال أهلُ العلم:
أن الحياء بالعينِ أن لا تنظر بها إلى ما يغضبُ اللهَ عز وجل.
وحياء الأذن أن لا تسمع بها ما يغضبُه تبارك وتعالى.
وحياءُ اليدِ أن تكونَ محبوسةً تحت طاعةِ اللهِ عز وجل.
وحياءُ الرجل أن لا تمشي بها إلا في مرضاتِه عز وجل.
ولذلك كان من معالمِ المحاسبةِ عند أهلِ السنةِ والجماعةِ أن اللهَ عز وجل يجمعُ الأولينَ والآخرين يوم القيامةِ فيحاسبُهم كما خلقَهم وكما بدأهم أولَ مرة، يحاسبُهم على الأعضاء، ولن تجد عضواً أشدَ خطورةً ولا ضراوةً على المسلمِ، أو على الإنسانِ من لسانِه.
ويحقُ لأبي بكرٍ الصديقُ رضي اللهُ عنه وأرضاه، ومن مثلُ أبي بكر في إيمانِه وزهدِه وعبادتِه، أبو بكر الذي أنفق مالَه كلَه في سبيل الله، وأتعبَ جسمَه لرفعِ لا إله إلا الله، وبقي ساهرا حريصا على الأمةِ يقودُهم إلى اللهِ عز وجل، وهو مع هذا يقفُ في مزرعةِ رجلُ من الأنصارِ ويمد لسانَه يبكي ويقول هذا أوردَني الموارد أي المهالك.
فإذا كان هذا خائفُ فما بالنا نحنُ لا نخاف؟
وما بالُنا لا نعودُ ونحاسبُ أنفسَنا؟
قلي باللهِ عليك كم مرةً نذكرُ اللهَ عز وجل في اليوم؟
وفي المقابل كم نتكلم بكلامٍ ليس بذكر، وإذا عادلنا كلامَنا مع الناس وهرائنا وتسويفَنا، كم نعادلُه فهل هو بمعشارِ العشيرِ مع سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله، واللهُ أكبر.
ومقصودُ هذا الكلام حفظُ اليدِ التي أنعم اللهُ بها علينا، فإن الله عز وجل إذا أنعمَ على العبدِ انتظر سبحانَه وتعالى حتى يرى ماذا يفعلُ العبد، فإن حفظَ النعمةَ بالطاعةِ زادهُ سبحانَه وتعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وإن ضيعها أخذَه أخذَ عزيزٍ مقتدر.
فيا من أنعم اللهُ عليه بنعمةِ الشباب، إن كنت تريدُ حفظَ الشبابِ فما حفظُه إلا بحفظِ الله، ويا من أنعم اللهُ عليه بالمال، حفظُ المالِ حفظُ الله، ويا من أنعم اللهُ عليه بجاهٍ أو بمنصبٍ أو بولدٍ، إن تريدُ المحافظةُ على ذلك فأحفظَ اللهَ عز وجل، وإلا فأنتظرِ الزوالَ والنكبةَ إن عاجلا أو آجلا.
قال أبو سليمانُ الداراني رحمَه الله: واللهِ إني لأعصِ اللهَ عز وجل في الليل فأجدُ جزاءَ ذلك في النهار، فقالوا لبعضِ أهلِ العلمِ، نحن ما نجدُ الجزاءَ في النهار، جربنا أنا نعصي اللهَ عز وجل في الليلِ كثيراً فلا نجدهُ في النهار، قال إنكم أكثرتُم من الذنوبِ فما تعلمونَ من أين تأُتونَ، أي لا تعلمونَ من كثرة الجزاوات من أين تأُتون.
ولا يظنُ ظانُ أن الجزاء أن تنزلَ عليه صاعقةً أو قذيفةً من السماء، أو يعذبُ بمرضٍ، كلا فإن أشدَ العقاب أن يقّسي اللهُ قلبَ هذا المجرم، وأن يطبعَ اللهُ على فؤاده، وأن يبتليهِ سبحانَه وتعالى بالصدِ عن سبيلِه، أو يزيدَه سبحانَه وتعالى، لأنَه هو الذي زاد ضلالاً وحياداً عن الله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
قال بعضُ الصالحين وقد ذهب إلى صلاةِ الجمعةِ فانقطعت حذاءُه، قالوا مالك؟ قال تذكرتُ أني ما اغتسلتُ للجمعةِ فانقطعت حذائي، قال ابن تيمية تعليقا عليه: قللوا الذنوبَ فعرفوا من أين يأتونَ.
هم قللوا الذنوبَ والخطايا فعرفوا من أين يأتونَ من الذنوب، فلما أكثرنا الذنوبَ والخطايا ما ندري من أين نصاب، بالهموم، بالغموم، بالأحزان، بفسادِ الأبناء.
وليست النعمةُ في مفهومِها عند عقلاءِ المسلمينَ أن تُكثرَ الأرزاقُ، نعم هذه نعمة، لكن النعمةُ أن نستقيمَ مع الله، وأن نتجَه إلى الله، وأن نحسن معاملتَنا نع الله.
وإلا لو كانت النعمة بهذا المفهوم لكان الكفارُ أكثر منا قصورا ودورا وذهبا وفضة وجاها ومناصبا وأموالا وأولادا، لكن لا والله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ.
ما آتاكَ من نعمةٍ فواجبُك أن تشكُرها بثلاثِ مقاصد:
وجبها الأول:
أن ترددَ على لسانِك الحمد لله، فإنها تملئُ الميزان، وإن سبحانَ اللهِ والحمد لله تملئُ ما بين السماءِ والأرض، ويعجبُ ربُك إلى العبدِ إذا قال الحمد لله، وأولُ ما يدخلَ الجنةَ الحامدون الذين يحمدونَ اللهَ في السراءِ والضراء.
ضاعَ فرسُ لجعفر الصادق فقال: واللهِ لأن ضفرتُ بفرسي لأحمدنَه سبحانَه وتعالى بمحامدٍ ما حمدَه بها إلا أوليائُه وأحبائُه.
فلما وجد الفرسَ قال الحمدُ لله.
قال أبنائُه أين المحامد؟
قال وهل أبقت الحمدُ لله بمحامدَ بعدَها.
ولذلك قال عز من قائل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
فواجبُك أن ترددَ الحمدَ دائما على لسانِك ليبقي عليك اللهُ النعمةَ؛
البس ثوبَك إن كنت مسلما وقل الحمدُ لله.
وكل طعامَك وقل الحمدُ لله.
وأشرب شرابَك وقلِ الحمدُ لله.
وقم من نومِك وقلِ الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما آماتنا وإليه النشور.
وكلَ ما لمعَ لك لامعُ من النعمة، وكلَ ما لمحَ لك لامحُ من الجميل فقلِ الحمدُ لله يبقي اللهُ عليكَ النعمة.
ووجبُها الثاني:
أن تعتقدَ بقلبِك وأن تتصورَ أن ما آتاكَ من النعيم إنما هو من الله لا من الناس، وما صُرف عنك من العذابِ ومن المصائبِ إنما صُرفَ عنك من اللهِ عز وجل.
يقول ابن مسعودٍ رضي اللهُ عنه في كلامٍ ما معنَاه: إن من الإزراءِ والنكران أن ينعمَ اللهُ عليك بنعيمٍ فتقولَ هذا بسببِ فلان، أو يصرف اللهُ عنك سوءً فتقولَ هذا بسببِ فلان، واللهِ ما أتى من نعيمٍ ولا صُرف من عذابٍ إلا بتقديرِ اللهِ ورحمتِه سبحانَه وتعالى.
أوحى اللهُ سبحانَه وتعالى إلى داودَ عليه السلام، فقال داودُ إلى ربِه في أثناءِ الكلامِ: يا ربي أنعمت علي بنعمٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ فبأي لسانٍ أشكُرك؟
قال اللهُ عز وجل: يا داود أتدري أن هذه النعمُ مني؟
قال نعم يا ربي.
قال إن علمتَ بذلك فقد شكرتني.
قال يا رب إني أريدُ أن أشكركَ بالعمل.
قال يا داود تقرب إليَ بما استطعت من عمل.
في كتبِ التفسيرِ أنه عليه السلام جمع آل داود، أتدرون كم كان عددُهم؟
قيل أن عددُهم ما يقاربُ ثلاثينَ ألفا، وهم الملوكُ في بني إسرائيل، فيهم الملكُ كابرا عن كابر ومنهم سليمان ابن داود، فجمعَهم أعماما وأخوالا وأبناءً وأقاربَ حتى ملئوا الُشرفاتَ في بيت المقدس، فقال داودُ وهو يبكي:
يا آل داود إن اللهَ أنعم علينا نعما ظاهرةً وباطنة، فعليكم بطاعةِ الله، فواللهِ إن لم تطيعوه ليسلبنَه اللهُ منكم.
قالوا ماذا نفعل؟
قال قسموا ساعةَ الليلِ والنهار فليكن منكم في كلِ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ مصلين وصائمينَ وذاكرين ومستغفرين.
فقسمَ عليهم الساعاتَ في الليلِ والنهار فكان منهم قومُ يسبحون، وقومُ يستغفرون، وقوم يصلون، وقوم يصومون، فقال الله سبحانَه وتعالى في كتابِه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ). وقليلُ من الناسِ الشكور.
إذا فواجبُ النعمةِ الثاني أن تعتقدَ أنها من عندِ الله، وأن ما ساقَ اللهُ لك من نعمةٍ إنما هو بقضاءِ اللهِ وقدرِه، ما ساقهُ أحدُ من الناس فوالله لو اجتمعَ الناسُ على أن ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبَه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروكَ لن يضروكَ إلا بشيءٍ قد كتبَه الله عليك، رفعتِ الأقلامُ وجفت الصحف، فالقضاءُ من عنده والقدرُ من عنده سبحانَه وتعالى.
والواجبُ الثالثُ:
أن تظهرَ آثارُ النعمةِ عليك بالعملِ وبالتجملِ، فإذا أنعم اللهُ عليك بنعمةٍ فإنَه يحبُ سبحانَه وتعالى أن يرى أثرَها عليك، أنعمَ عليكَ بمالٍ فألبس من الجمالِ ما يرى الناسُ أن اللهَ سبحانَه وتعالى أنعم عليك بنعيم، لا تزري بربِك سبحانَه وتعالى، لا تشكوه ملبسِك أو بمسكنِك أو بمركبِك، فكأنكَ تقول ما أعطاني اللهُ شيء: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، بلسانِك وبفعلِك.
ولذلك صح عنه (صلى اللهُ عليه وسلم أنه يقول: أن اللهَ إذا أنعم على عبدٍ أحب أن يرى أثر نعمتَه عليه.
والواجب الرابع:
أن تستغل هذه النعمةُ في مرضاتِه سبحانَه وتعالى.
أسأل اللهَ لنا ولكم التوفيقَ والهداية، والرشدَ والسداد، وأن يستغلَنا بنعمتِه في طاعتِه، وأن يجعلنا ممن إذا أُنعمَ عليه شكر، وإذا ابتليَ صبر، وإذا أذنب استغفر.
وصلى اللهُ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
.......................
تم بحمد الله وتوفيقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق